فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كان هذا من عجائب الصنع، كرر التقرير والإنكار تنبيهًا عليه فقال: {ءأنتم أنشأتم} أي اخترعتم وأوجدتم وأودعتم وأحييتم وربيتم وأوقعتم {شجرتها} أي المرخ والعفار التي تتخذون منها الزناد الذي يخرج منه، وأسكنتموها النار مختلطة بالماء الذي هو ضدها وخبأتموها في تلك الشجرة لا يعدو واحد منها على الآخر مع المضادة فيغلبه حتى يمحقه ويعدمه {أم نحن} أي خاصة، وأكد بقوله: {المنشئون} أي لها بما لنا من العظمة على تلك الهيئة، فمن قدر على إيجاد النار التي هي أيبس ما يكون من الشجرة الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها في كيفيتها، كان أقدر على إعادة الطرواة والغضاضة في تراب الجسد الذي كان غضًا طريًا فيبس وبلي، والآية من الاحتباك بمثل ما مضى في أخواتها سواء.
ولما كان الجواب قطعًا: أنت وحدك، قال دالًا على ذلك تنبيهًا على عظم هذا الخبر: {نحن} أي خاصة {جعلناها} بما اقتضته عظمتنا، وقدم من منافعها ما هو أولى بسياق البعث الذي هو مقامه فقال: {تذكرة} أي شيئًا تتذكرونه وتتذكرون به تذكرًا عظيمًا جليلًا عن كل ما أخبرنا به من البعث وعذاب النار الكبرى وما ينشأ فيها من شجرة الزقوم وغير ذلك مما ننيره لأولي البصائر والفهوم من العلوم، قال ابن برجان: فوزان قدح الزناد من الشجر، والزناد وزان الصيحة بهم ووزان إنشائه الأجسام وزان إنشائه الشجرة النار، ويتذكر بإنشائها في الشجر إنشاء الحياة في الأجسام وبإنشائها من غيبها أن النار الكبرى في غيب ما نشاهده، وهذا من آثار كونها في الجو- انتهى.
وعلق بها سبحانه كثيرًا من أسباب المعاش التي لا غنى عنها ليكون مذكرًا لهم بما أوقدوا به حاضرًا دائمًا فيكون أجدر باتعاظهم {ومتاعًا} أي إنشاءً وبقاءً وتعميرًا ونفعًا وإيصالًا إلى غاية المراد من الاستضائة والاصطلاء والإنضاج والتحليل والإذابة والتعقيد والتكليس، وهروب السباع وغير ذلك، والمراد أنها سبب لجميع ذلك {للمقوين} أي الجياع الذي أقوت بطونهم- أي خلت- من الفقر والإغناء من النازلين بالأرض القواء، والقواء بالكسر والمد أي القفر الخالية المتباعدة الأطراف البعيدة من العمران، وكل آدمي مهيأ للقواء فهو موصوف به وإن لم يكن حال الوصف كذلك، وقال الرازي: أقوى من الأضداد: اغتنى وافتقر، وقال أبو حيان: وهذه الأربعة التي ذكرها الله تعالى ووقفهم عليها من أمر خلقهم وما به قوام عيشهم من المطعوم والمشروب، والنار من أعظم الدلائل على البعث إذ فيها انتقال من شيء إلى شيء إحداث شيء من شيء، ولذلك أمر في آخرها بتنزيهه- انتهى.
ولما دل سبحانه في هذه الآيات على عجائب القدرة وغرائب الصنع، فبدأ بالزرع وختم بالنار والشجر، وأوجب ما نبه التذكر لأمرها والتبصر في شأنها أنها من أسباب ما قبلها، وأنه سبب لها لكونه سببًا لها لإثبات ما هي له، وكان مجموع ذلك إشارة إلى العناصر الأربعة، قال ابن برجان: إلاّ أن الماء والأرض لخلق الأركان، والأخلاق والصفات للهواء والنار، وكان ذلك من جميع وجوهه أمرًا باهرًا، أشار إلى زيادة عظمته بالأمر بالتنزيه مسببًا عما أفاد ذلك، فقال معرضًا عمن قد يلم به الإنكار مقبلًا على أشرف خلقه إشارة إلى أنه لا يفهم هذا المقام حق فهمه سواه ولا يعمل به حق عمله غيره: {فسبح} أي أوقع التنزيه العظيم عن كل شائبة نقص من ترك البعث وغيره ولاسيما بعد بلوغ هذه الأدلة إلى حد المحسوس تسبيح متعجب من آثار قدرته الدالة على تناهي عظمته وتسبيح شكر له وتعظيم له وإكبار وتنزيه عما يقول الجاحدون وتعجيب منهم مقتديًا بجميع ما في السماوات والأرض، ومن أعجب ذلك أنه سخر لنا في هذه الدار جهنم، قال ابن برجان: جعل منها بحرارة الشمس جنات وثمرات وفواكه وزروع ومعايش.
ولما كان تعظيم الاسم أقعد في تعظيم المسمى قال: {باسم} أي متلبسًا بذكر اسم {ربك} أي المحسن بعد التربية إليك بهذا البيان الأعظم بما خصك به مما لم يعطه أحدًا غيرك، وأثبتوا ألف الوصل هنا لأنه لم يكثر دوره كثرته في البسملة منها وحذفوه منها لكثرة دورها وهم شأنهم الإيجاز وتقليل الكثير إذا عرف معناه، وهذا معروف لا يجهل، وإثبات ما أثبت من أشكاله مما لا يكثر دليل على الحذف منه، وكذا لا تحذف الألف مع غير الباء في اسم الله ولا مع الباء في غير الجلالة من الأسماء لما تقدم من العلة.
ولما كان المقام للتعظيم قال: {العظيم} الذي ملأ الأكوان كلها عظمة، فلا شيء منها إلا وهو مملوء بعظمته تنزهًا عن أن تلحقه شائبة نقص أو يفوته شيء من كمال، قال القشيري: وهذه الآيات التي عددها سبحانه تمهيد لسلوك طريق الاستدلال وكما في الخبر (تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة) هذه الفكرة التي نبه الله عليها. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68)}.
خصه بالذكر لأنه ألطف وأنظف أو تذكيرًا لهم بالإنعام عليهم، والمزن السحاب الثقيل بالماء لا بغيره من أنواع العذاب يدل على ثقله قلب اللفظ وعلى مدافعة الأمر وهو التزم في بعض اللغات السحاب الذي مس الأرض وقد تقدم تفسير الأجاج أنه الماء المر من شدة الملوحة، والظاهر أنه هو الحار من أجيج النار كالحطام من الحطيم، وقد ذكرناه في قوله تعالى: {هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان: 53] ذكر في الماء الطيب صفتين إحداهما عائدة إلى طعمه والأخرى عائدة إلى كيفية ملمسه وهي البرودة واللطافة، وفي الماء الآخر أيضًا صفتين إحداهما عائدة إلى طعمه والأخرى عائدة إلى كيفية لمسه وهي الحرارة، ثم قال تعالى: {فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} لم يقل عند ذكر الطعام الشكر وذلك لوجهين أحدهما: أنه لم يذكر في المأكول أكلهم، فلما لم يقل: تأكلون لم يقل: تشكرون وقال في الماء: {تَشْرَبُونَ} فقال: {تَشْكُرُونَ} والثاني: أن في المأكول قال: {تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63] فأثبت لهم سعيًا فلم يقل: تشكرون وقال في الماء: {أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن} لا عمل لكم فيه أصلًا فهو محض النعمة فقال: {فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} وفيه وجه ثالث: وهو الأحسن أن يقال: النعمة لا تتم إلا عند الأكل والشرب ألا ترى أن في البراري التي لا يوجد فيها الماء لا يأكل الإنسان شيئًا مخافة العطش، فلما ذكر المأكول أولًا وأتمه بذكر المشروب ثانيًا قال: {فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} على هذه النعمة التامة.
{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72)}.
وفي شجرة النار وجوه أحدها: أنها الشجرة التي تورى النار منها بالزند والزندة كالمرخ وثانيها: الشجرة التي تصلح لإيقاد النار كالحطب فإنها لو لم تكن لم يسهل إيقاد النار، لأن النار لا تتعلق بكل شيء كما تتعلق بالحطب وثالثها: أصول شعلها ووقود شجرتها ولولا كونها ذات شعل لما صلحت لإنضاج الأشياء والباقي ظاهر.
{نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)}.
في قوله: {تَذْكِرَةٌ} وجهان أحدهما: تذكرة لنار القيامة فيجب على العاقل أن يخشى الله تعالى وعذابه إذا رأى النار الموقدة وثانيهما: تذكرة بصحة البعث، لأن من قدر على إيداع النار في الشجر الأخضر لا يعجز عن إيداع الحرارة الغريزية في بدن الميت وقد ذكرناه في تفسير قوله تعالى: {الذى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشجر الأخضر نَارًا} [يس: 80] والمقوى: هو الذي أوقده فقواه وزاده وفيه لطيفة: وهو أنه تعالى قدم كونها تذكرة على كونها متاعًا ليعلم أن الفائدة الأخروية أتم وبالذكر أهم.
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
في وجه تعلقه بما قبله؟ نقول: لما ذكر الله تعالى حال المكذبين بالحشر والوحدانية ذكر الدليل عليهما بالخلق والرزق ولم يفدهم الإيمان قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: أن وظيفتك أن تكمل في نفسك وهو علمك بربك وعملك لربك: {فَسَبّحْ باسم رَبّكَ} وقد ذكرنا ذلك في قوله تعالى: {فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس} [طه: 130] وفي موضع آخر.
المسألة الثانية:
التسبيح التنزيه عما لا يليق به فما فائدة ذكر الاسم ولم يقل: فسبح بربك العظيم؟ فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما: هو المشهور وهو أن الاسم مقحم، وعلى هذا الجواب فنقول: فيه فائدة زيادة التعظيم، لأن من عظم عظيمًا وبالغ في تعظيمه لم يذكر اسمه إلا وعظمه، فلا يذكر اسمه في موضع وضيع ولا على وجه الاتفاق كيفما اتفق، وذلك لأن من يعظم شخصًا عند حضوره ربما لا يعظمه عند غيبته فيذكره باسم علمه، فإن كان بمحضر منه لا يقول ذلك، فإذا عظم عنده لا يذكره في حضوره وغيبته إلا بأوصاف العظمة، فإن قيل: فعلى هذا فما فائدة الباء وكيف صار ذلك، ولم يقل: فسبح اسم ربك العظيم، أو الرب العظيم، نقول: قد تقدم مرارًا أن الفعل إذا كان تعلقه بالمفعول ظاهرًا غاية الظهور لا يتعدى إليه بحرف فلا يقال: ضربت بزيد بمعنى ضربت زيدًا، وإذا كان في غاية الخفاء لا يتعدى إليه إلا بحرف فلا يقال: ذهبت زيدًا بمعنى ذهبت بزيد، وإذا كان بينهما جاز الوجهان فنقول: سبحته وسبحت به وشكرته وشكرت له، إذا ثبت هذا فنقول: لما علق التسبيح بالاسم وكان الاسم مقحمًا كان التسبيح في الحقيقة متعلقًا بغيره وهو الرب وكان التعلق خفيًا من وجه فجاز ادخال الباء، فإن قيل: إذا جاز الإسقاط والإثبات فما الفرق بين هذا الموضع وبين قوله تعالى: {سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى} [الأعلى: 1] فنقول: هاهنا تقديم الدليل على العظمة أن يقال: الباء في قوله: {باسم} غير زائدة، وتقريره من وجهين أحدهما: أنه لما ذكر الأمور وقال: نحن أم أنتم، فاعترف الكل بأن الأمور من الله، وإذا طولبوا بالوحدانية قالوا: نحن لا نشرك في المعنى وإنما نتخذ أصنامًا آلهة في الاسم ونسميها آلهة والذي خلقها وخلق السموات هو الله فنحن ننزهه في الحقيقة فقال: {فَسَبّحْ باسم رَبّكَ} وكما أنك أيها العاقل اعترفت بعدم اشتراكهما في الحقيقة اعترف بعدم اشتراكهما في الاسم، ولا تقل لغيره إله، فإن الاسم يتبع المعنى والحقيقة، وعلى هذا فالخطاب لا يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم بل يكون كما يقول الواعظ: يا مسكين أفنيت عمرك وما أصلحت عملك، ولا يريد أحدًا بعينه، وتقديره يا أيها المسكين السامع وثانيهما: أن يكون المراد بذكر ربك، أي إذا قلت: وتولوا، فسبح ربك بذكر اسمه بين قومك واشتغل بالتبليغ، والمعنى اذكره باللسان والقلب وبين وصفه لهم وإن لم يقبلوا فإنك مقبل على شغلك الذي هو التبليغ، ولو قال: فسبح ربك، ما أفاد الذكر لهم، وكان ينبىء عن التسبيح بالقلب، ولما قال: فسبح باسم ربك، والاسم هو الذي يذكر لفظًا دل على أنه مأمور بالذكر اللساني وليس له أن يقتصر على الذكر القلبي ويحتمل أن يقال: فسبح مبتدئًا باسم ربك العظيم فلا تكون الباء زائدة.
المسألة الثالثة:
كيف يسبح ربنا؟ نقول: إما معنى، فبأن يعتقد فيه أنه واحد منزه عن الشريك وقادر بريء عن العجز فلا يعجز عن الحشر وإما لفظًا فبأن يقال: سبحان الله وسبحان الله العظيم، وسبحانه عما يشركون، أو ما يقوم مقامه من الكلام الدال على تنزيهه عن الشريك والعجز فإنك إذا سبحته واعتقدت أنه واحد منزه عن كل مالا يجوز في حقيقته، لزم أن لا يكون جسمًا لأن الجسم فيه أشياء كثيرة وهو واحد حقيقي لا كثرة لذاته، ولا يكون عرضًا ولا في مكان، وكل مالا يجوز له ينتفي عنه بالتوحيد ولا يكون على شيء، ولا في شيء، ولا عن شيء، وإذا قلت: هو قادر ثبت له العلم والإرادة والحياة وغيرها من الصفات وسنذكر ذلك في تفسير سورة الإخلاص إن شاء الله تعالى.
المسألة الرابعة:
ما الفرق بين {العظيم} وبين {الأعلى}، وهل في ذكر {العظيم} هنا بدل {الأعلى} وذكر {الأعلى} في قوله: {سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى} [الأعلى: 1] بدل {العظيم} فائدة؟ نقول: أما الفرق بين العظيم والأعلى فهو أن العظيم يدل على القرب، والأعلى يدل على البعد، بيانه هو أن ما عظم من الأشياء المدركة بالحس قريب من كل ممكن، لأنه لو بعد عنه لخلا عنه موضعه، فلو كان فيه أجزاء أخر لكان أعظم مما هو عليه فالعظيم بالنسبة إلى الكل هو الذي يقرب من الكل، وأما الصغير إذا قرب من جهة فقد بعد عن أخرى، وأما العلي فهو البعيد عن كل شيء لأن ما قرب من شيء من جهة فوق يكون أبعد منه وكان أعلى فالعلي المطلق بالنسبة إلى كل شيء هو الذي في غاية البعد عن كل شيء، إذا عرفت هذا فالأشياء المدركة تسبح الله، وإذا علمنا من الله معنى سلبيًا فصح أن نقول: هو أعلى من أن يحيط به إدراكنا وإذا علمنا منه وصفًا ثبوتيًا من علم وقدرة يزيد تعظيمه أكثر مما وصل إليه علمنا، فنقول: هو أعظم وأعلى من أن يحيط به علمنا، وقولنا: أعظم معناه عظيم لا عظيم مثله، ففيه مفهوم سلبي ومفهوم ثبوتي وقوله: أعلى، معناه هو علي ولا علي مثله، والعلي إشارة إلى مفهوم سلبي والأعلى مثله بسبب آخر، فالأعلى مستعمل على حقيقته لفظًا ومعنى، والأعظم مستعمل على حقيقته لفظًا، وفيه معنى سلبي، وكأن الأصل في العظيم مفهوم ثبوتي لا سلب فيه فالأعلى أحسن استعمالًا من الأعظم هذا هو الفرق. اهـ.